(إلى لينا)
بيروت
توقفت السيارة عند التقاطع. بدا المشهد هذرياً: السائق في الخلف يطلق لبوق سيارته العنان كما لشتائمه، الشرطي أمامه يشير له بحركة عصبية بأن يتقدم، والشارة الضوئية المعطّلة تومض تكراراً بضوء أصفر.
وقفت السيارة، وركض نحوه بائع اليانصيب، وبائع اللوتو، وبائع جلد الغزل، وبائع الأدوات الصينية الرخيصة، وصبية العلكة، وماسحو الزجاج من الأولاد. كانت الأمور تجنح نحو الفوضى المطلقة وهو ما زال يعيش حلم اليقظة ومعه سلبيته المطلقة. كان سبب ذاك التوقف وتلك الفوضى القادمة.. وردة.
تمترس ولد الغاردينيا ويداه تلمسان الشباك نصف المفتوح. كان أمامه يسأله: «يعني بدك غاردينيا. بدك غاردينيا؟».
هو كان يفكر بـ «ل.»، وكيف أنها ذات مرة حملت وردتي غاردينيا على راحة كفها وشمَّتْهما، ثم وضعتهما في شعرها. كان يتذكر كيف ضحك لما رأى الوردة «مشكولة» وكيف سألته: «كل هالأد بتضحِّك وردة الغاردينيا؟». وهو الآن يسأل نفسه لماذا ضحك فعلاً وقتها. هل كان يردم الفراغ الكلامي.. بضحكة؟
لندن
أصعد الدرج الكهربائي في محطة «لندن كينغز كروس» للقطارات. أرى الوحوش الكبيرة في أجسادها الصغيرة. أومئ برأسي إلى الدرجات الحديدية حتى أكاد أقع عند انتهاء الدرج. الوحوش الكبيرة ترمقني، لكني لا أهتم لنظراتها.أرفع ما وقع من حقيبتي الرياضية، وأسوّي ربطة الوشاح الصوفي فوق الكنزة السوداء. أحب الأوشحة الصوفية، خاصةً تلك المخططة منها. في مرة، فتحْتُ خزانتي ففوجئتُ بكمّ الكنزات المخططة التي أمتلكها. كأنني كنتُ أقف أمام زنزانة للمساجين. ضحكتُ، وقلتُ إنني فعلاً في زنزانة. زنزانة من نوع خاص متمثلة بالاستديو هذا. هنا، في غرفة جانبيّة، أو في زاوية معتمة من هذه الحجرة، أعلّق حبلاً لنشر صوري المبتلّة التي أظهّرها يدوياً. وأحياناً، أتم العملية هذه في الحمّام. هنا، أتلذذ بناتج عدساتي. منذ أيام، رجعتُ إلى عزلتي الاختيارية. وللحق، أنا مرتاحٌ جداً لخياري هذا. في العتمة، تولد بين يدي قصص صغيرة. آخذ الصور وأعنونها. بعض الأوقات، أتذكر أبيات شعر تتماشى مع أشخاصها. الآن، وأنا ألمح صورة العجوز بالعينين الناعستين أمامي، أستعيد قول تولستوي: «السعادة تشبيه، أما التعاسة فقصة». أفعل ذلك، أعلق الصورة على الحبل المشدود، وأجرع من كأس النبيذ جرعة أخيرة.
باريس
يبتسم فجأة في زحام المترو. الكوفيات الملوَّنة تحيط به. روائح البول والعرق اعتادها جزءاً من القطار السفلي السريع في المدينة المشعّة. باريس: عمل، مترو، نوم. ينظر للمرة الألف إلى وجه العازف «الشحاذ». يستمع إلى آخرين يتكلمون العربية ويصمت. يجذب الألمانية الجميلة من يدها إلى داخل قطار المترو قبل أن يغلق الباب. يرى «الغرافيتي» الملونة الداكنة على الجدران في ظلام الأرض. يخطر في باله شارع الحمرا فجأة. يتذكَّر مرة أنه قرأ هذه الجملة في مكان ما: «شارع الحمرا بدا كالمغناطيس تلك الليلة. شارع الحمرا بدا كالمغناطيس». يخرج إلى السطح. إلى فوق. يتحيَّن الفرصة لإقلاق مباغت لجماعات الحـَمَام على الرصيف. ينفي ببساطة كونه هندياً ويبتسم. ينفي ببساطة كونه مغربياً ويكمل ابتسامته. تدمع عيناه لوفاة سينمائية جداً في صالة لم يكن غيره متواجداً فيها. يصمت ويبدأ بإخراج وسخ تحت الأظافر ليومين. يقص أظافره في اليوم الثالث. يعتزل صالون الحلاقة وثرثرة من فيه. يبدأ بلحظ زيادة وزنه. يبدأ بلحظ فقدان وزنه. يُبقي الأنوار مضاءة ليلاً. يتمسك بما لم يتخلَّ عنه الزمن بعدْ. يحافظ على حيادِه الفَرِح. يؤمن بالنبوءة: باريس! عمل، مترو، نوم!
فلوريدا
عزيزي. أكتب لك هذه «الإيميل» وأنا غاضبة جداً. لا لست غاضبة. لقد خاب أملي فعلاً. وصلْتُ ولاية فلوريدا منذ أيام. ما زالت المشاعر المختلطة تلفّني. ما زلتُ لا أستطيع النوم. أستعين ببعض الحبوب المنومة. من رأس النبع إلى فلوريدا، كانت رحلة متعبة نفسياً وجسدياً. لا أصدِّق أن هذا حدث فعلاً في النويري ورأس النبع. كأنني كنتُ أعيش كابوساً. لقد أجلْتُ رحلتي لسنوات، ولما عدت وجدتـُني محتجزة بين حيطان أربعة، أصم أذنيَّ عن أصوات «الآر بي جي» والرصاص المتطاير. لا أفهم السياسة، لكن لا تظنَّنَّ يوماً أنني سأتعاطف مع مسلحين أحكموا السيطرة على شارعي. عزيزي. أنظر الآن إلى الأطفال، حولي حيث أعمل، يلعبون ويلهون. لا تعاتبني على ما سأقوله، لكني أفكّر أنه من الأحسن لهم أن يكونوا متأخري التفكير والنطق. لقد أحضرْتُ لهم من التعاونية القريبة في بيروت بعض غزل البنات والكثير من الشيكولاتة الرخيصة التي كنتُ أحبها وأنا صغيرة. ما زالوا يبيعونها. لن أكذب. أبقيتُ القليل منها لنفسي. ضممتُهم كثيراً بعد عودتي من رحلتي. كنتُ أعانق الجميع من دون أن أفهم لماذا.
أحد الأولاد الآن ألصق لسانه بالواجهة الزجاجية وبدأ يفتعل لي بعض الحركات الوجهية. عليّ أن أذهب. أرجو أن تكون بخير.
بيروت
توقفت السيارة عند التقاطع. بدا المشهد هذرياً: السائق في الخلف يطلق لبوق سيارته العنان كما لشتائمه، الشرطي أمامه يشير له بحركة عصبية بأن يتقدم، والشارة الضوئية المعطّلة تومض تكراراً بضوء أصفر.
وقفت السيارة، وركض نحوه بائع اليانصيب، وبائع اللوتو، وبائع جلد الغزل، وبائع الأدوات الصينية الرخيصة، وصبية العلكة، وماسحو الزجاج من الأولاد. كانت الأمور تجنح نحو الفوضى المطلقة وهو ما زال يعيش حلم اليقظة ومعه سلبيته المطلقة. كان سبب ذاك التوقف وتلك الفوضى القادمة.. وردة.
تمترس ولد الغاردينيا ويداه تلمسان الشباك نصف المفتوح. كان أمامه يسأله: «يعني بدك غاردينيا. بدك غاردينيا؟».
هو كان يفكر بـ «ل.»، وكيف أنها ذات مرة حملت وردتي غاردينيا على راحة كفها وشمَّتْهما، ثم وضعتهما في شعرها. كان يتذكر كيف ضحك لما رأى الوردة «مشكولة» وكيف سألته: «كل هالأد بتضحِّك وردة الغاردينيا؟». وهو الآن يسأل نفسه لماذا ضحك فعلاً وقتها. هل كان يردم الفراغ الكلامي.. بضحكة؟
لندن
أصعد الدرج الكهربائي في محطة «لندن كينغز كروس» للقطارات. أرى الوحوش الكبيرة في أجسادها الصغيرة. أومئ برأسي إلى الدرجات الحديدية حتى أكاد أقع عند انتهاء الدرج. الوحوش الكبيرة ترمقني، لكني لا أهتم لنظراتها.أرفع ما وقع من حقيبتي الرياضية، وأسوّي ربطة الوشاح الصوفي فوق الكنزة السوداء. أحب الأوشحة الصوفية، خاصةً تلك المخططة منها. في مرة، فتحْتُ خزانتي ففوجئتُ بكمّ الكنزات المخططة التي أمتلكها. كأنني كنتُ أقف أمام زنزانة للمساجين. ضحكتُ، وقلتُ إنني فعلاً في زنزانة. زنزانة من نوع خاص متمثلة بالاستديو هذا. هنا، في غرفة جانبيّة، أو في زاوية معتمة من هذه الحجرة، أعلّق حبلاً لنشر صوري المبتلّة التي أظهّرها يدوياً. وأحياناً، أتم العملية هذه في الحمّام. هنا، أتلذذ بناتج عدساتي. منذ أيام، رجعتُ إلى عزلتي الاختيارية. وللحق، أنا مرتاحٌ جداً لخياري هذا. في العتمة، تولد بين يدي قصص صغيرة. آخذ الصور وأعنونها. بعض الأوقات، أتذكر أبيات شعر تتماشى مع أشخاصها. الآن، وأنا ألمح صورة العجوز بالعينين الناعستين أمامي، أستعيد قول تولستوي: «السعادة تشبيه، أما التعاسة فقصة». أفعل ذلك، أعلق الصورة على الحبل المشدود، وأجرع من كأس النبيذ جرعة أخيرة.
باريس
يبتسم فجأة في زحام المترو. الكوفيات الملوَّنة تحيط به. روائح البول والعرق اعتادها جزءاً من القطار السفلي السريع في المدينة المشعّة. باريس: عمل، مترو، نوم. ينظر للمرة الألف إلى وجه العازف «الشحاذ». يستمع إلى آخرين يتكلمون العربية ويصمت. يجذب الألمانية الجميلة من يدها إلى داخل قطار المترو قبل أن يغلق الباب. يرى «الغرافيتي» الملونة الداكنة على الجدران في ظلام الأرض. يخطر في باله شارع الحمرا فجأة. يتذكَّر مرة أنه قرأ هذه الجملة في مكان ما: «شارع الحمرا بدا كالمغناطيس تلك الليلة. شارع الحمرا بدا كالمغناطيس». يخرج إلى السطح. إلى فوق. يتحيَّن الفرصة لإقلاق مباغت لجماعات الحـَمَام على الرصيف. ينفي ببساطة كونه هندياً ويبتسم. ينفي ببساطة كونه مغربياً ويكمل ابتسامته. تدمع عيناه لوفاة سينمائية جداً في صالة لم يكن غيره متواجداً فيها. يصمت ويبدأ بإخراج وسخ تحت الأظافر ليومين. يقص أظافره في اليوم الثالث. يعتزل صالون الحلاقة وثرثرة من فيه. يبدأ بلحظ زيادة وزنه. يبدأ بلحظ فقدان وزنه. يُبقي الأنوار مضاءة ليلاً. يتمسك بما لم يتخلَّ عنه الزمن بعدْ. يحافظ على حيادِه الفَرِح. يؤمن بالنبوءة: باريس! عمل، مترو، نوم!
فلوريدا
عزيزي. أكتب لك هذه «الإيميل» وأنا غاضبة جداً. لا لست غاضبة. لقد خاب أملي فعلاً. وصلْتُ ولاية فلوريدا منذ أيام. ما زالت المشاعر المختلطة تلفّني. ما زلتُ لا أستطيع النوم. أستعين ببعض الحبوب المنومة. من رأس النبع إلى فلوريدا، كانت رحلة متعبة نفسياً وجسدياً. لا أصدِّق أن هذا حدث فعلاً في النويري ورأس النبع. كأنني كنتُ أعيش كابوساً. لقد أجلْتُ رحلتي لسنوات، ولما عدت وجدتـُني محتجزة بين حيطان أربعة، أصم أذنيَّ عن أصوات «الآر بي جي» والرصاص المتطاير. لا أفهم السياسة، لكن لا تظنَّنَّ يوماً أنني سأتعاطف مع مسلحين أحكموا السيطرة على شارعي. عزيزي. أنظر الآن إلى الأطفال، حولي حيث أعمل، يلعبون ويلهون. لا تعاتبني على ما سأقوله، لكني أفكّر أنه من الأحسن لهم أن يكونوا متأخري التفكير والنطق. لقد أحضرْتُ لهم من التعاونية القريبة في بيروت بعض غزل البنات والكثير من الشيكولاتة الرخيصة التي كنتُ أحبها وأنا صغيرة. ما زالوا يبيعونها. لن أكذب. أبقيتُ القليل منها لنفسي. ضممتُهم كثيراً بعد عودتي من رحلتي. كنتُ أعانق الجميع من دون أن أفهم لماذا.
أحد الأولاد الآن ألصق لسانه بالواجهة الزجاجية وبدأ يفتعل لي بعض الحركات الوجهية. عليّ أن أذهب. أرجو أن تكون بخير.
0 comments:
Post a Comment