يجلس بملابسه الداخلية وحيداً في زاوية من غرفته المظلمة. ضوى برق كهربائي منذ لحظات. كان عائداً لينهي نهاره كما دائماً في عزلته الاختيارية. لمس بأصابعه المتعبة أزرار الكهرباء فلمع الطرف الأيمن من الغرفة ثم حلّ الظلام. وجدها فرصة ليزيد من اعتكافه الاجتماعي. خلع ملابسه، أدار التدفئة الحرارية، ثم جلس هناك. صمت لثوانٍ، لدقائق. تنهد. قام ونظر إلى الرفوف الخشبية. ألبوم الصور مستقر إلى اليسار. كادت يده تمتد لترفعه من مكانه لكنها تضامنت مع خياره المازوشي. تذكر أيضاً أن يطفئ المحمول. ثم عاد إلى كرسيه المدفّأ.
نظر إلى السقف. اكتشف أنه يحب أسقف البيوت خاصةً في الظلام. ترسم عيناه هناك أشياءً حدثت أو لم.. تحدث. أشياء صغيرة تحرك "الستاتيكو" الآني. تذكّر أنها ليست المرة الأولى التي ينظر فيها إلى الأسقف. كثيراً ما كان يستلقي في سريره لينام فينتهي به الأمر ناظراً إلى فوق ومتأملاً. تشخص عيناه للحظات ثم يثقل جفناه ويروح في نوم عميق.
يستذكر جدته. تقسِّم مراحل حياتها بحسب الأحداث السياسية الأشهر. لا تعلم متى ولدت. تعلم أنها شهدت في صغرها المجاعة وتعرفت إلى الجراد. بعدها سمعت في مراهقتها أن رجالاً حبسوا في قلعة ما وأن الفوضى عمّت فجأة ثم استتب الوضع وعاد الناس ليترحموا على "الفرنساويي" ثم دبت ثورة أخرى ثم أخمدت وفي أثناء ذلك ظهر ذلك الكاريزماتي التي أحبته. ثم كادت تتزوج من آخر لكن تنحي الكاريزماتي وامتداد "الجـَفـْلة" إلى شوارع بيروت لم يكتفِ فقط بإرجاء زواجها لأيام بل قدم لها زوجاً بجبهةٍ جريحة من فعل ضرب الرأس بالحائط. قدم لها بداية بائسة لزواج. كرهت لحظتها ذلك الكاريزماتي الآتي / الباقي / المتنحي / العائد. ثم عادت فأحبته يوم رحل. وكيف لا تحب الراحلين لحظة رحيلهم؟
التفتت إلى زواجها فجربت أن تحمل ولم تنجح. ولما حملت أسقطت الجنين مرة ومرتين وثلاث. وذات مرة، ذهبت إلى الشاطئ القريب من بيتها الجنوبي وجعلت تغسل ملاءات السرير البيضاء فاستحال زبد البحر أحمر. فجلست تبكي ولم تحاول مرة أخرى. إختارت أن تعتني بأولاد زوجها وتفننت في زرع قصب السكر في حديقتها الصغيرة. ثم ظهر شخص أسمر آخر يشد على الحروف المنطوقة ويتهدّج بإيمان كلما خطب. قيل بعدها أنه ذهب إلى قيـّمي اللا مكان بـ"شجاعة". "شجاعة" امتدت معه إلى خطاب كلـَّفها الطبخة المحروقة الأولى ونظرة العتب الأولى من زوجها أبي اولاده.
وماذا بعد؟ احترقت الطبخة وخرجت القضية المطرودة من بلد لبلد لتستقر هنا ثم اشتعل حريق آخر قريباً منها. وبات غصن الزيتون مركوناً قرب الكلاشينكوف وظل ناس القضية يأكلون الصعتر الطيب ولا شيء غير الصعتر. ثم قتل الأسمر المؤمن ودخل الجنود الآتين من لا مكانهم الأراضي المحيطة بها. كانوا كثر. بعضهم جهد في تكلم العربية فخرجت من فاهه هجينة لئيمة. استعارت جدته لئمهم ولم تمتنع عن أداء دور مربية أولاد الزوج. هكذا كانت تردح لجنود اللا مكان لحظة يطأون سقف دارها أو يسرقون قصب السكر من حديقتها.
وكان أن اختفى ابن زوجها ليظهر في صفوف حركة شارعية اسلامية تجاهد ضد نصارى ما بعد المتحف. ثم أدار ظهره للنصارى وانهمك في قتاله ضد الشيعة وقـُزِّمـَت هوية الحركة من الإسلامية للسنية. لحظتها، لم تكن جدته لتكترث بالمشاريع الإعمارية المعلقة الطائرة بين دول القرار والتي تريد بناء البلد قبل أن ينتهي فعل الخراب فيه. نزلت إلى بيروت لتعيد ابن زوجها وهو كذلك فعل لكنه كان قليل الهمة بعكسها. وجدت ابنـ"ـها" قد بدّل الحركة ولم يبدّل السلاح، ولم تفلح في إعادته. استمرت لسنوات قبل أن يتوقف كل شيء فجأة كأن شيئاً لم يكن.
عاد إليها ابن زوجها سليماً لكن محبطاً وعاطلاً عن العمل. وبدأت سنوات اللا زمان واللا مكان. مهّد لها أحدهم وقد أصبح بعدها شهيداً على الشاشات الجديدة الإخبارية التي ستدمنها في آخر أيامها مقعدة بسرطان العظم. اختلطت عليها الأمور بادئ ذي بدء مع بداية سنوات الرماد: ابن زوجها مصاب يقضي أيامه في المنزل كئيباً، وأحد "الشهداء" المستقبليين يترك قيـِّمي اللا مكان ويستدير ليبدأ أم معاركه في الجهة الأخرى، أما غصن الزيتون فقد عاد من منفاه كئيباً كما لم يكن من قبل مصاباً بطفيليات نادرة. وعادت القضية المطرودة لتنام في أحضان قيـِّمي اللا مكان، فتضخمت جيوب البعض كما خلال سنوات الخراب. أما الشعب فبقي مطروداً يعيش على الصعتر.
ثم ماذا؟ أضاعت جدته هنا "التـَوْرَخـَة". تقول أن سكوناً حلَّ قطعه جنازات واغتيالات بدت لها عادية قياساً بما مرّت به. لحظة تملك منها ذلك المرض وتم نقلها إلى المستشفى، طلبت من سائقي عربة الإسعاف أن يتوقفوا في البقعة الجديدة المعاد إعمارها ويخرجوها قليلاً لتنظر فقط. عبثاً كانت تفتش عن شوارع شعبية كانت تتسوق فيها قبل اندلاع الحرب. قالت أن المكان بات غريباً عليها ثم أضافت أن لا مشكلة فهي ذاهبة وربما يتواءم من هو أصغر منها معه. عادت إلى سيارة الإسعاف واتجهت إلى غرفة ستقضي فيها بقية عمرها. هناك، ستعيد عقد الصداقة مع التلفاز الذي هجرته منذ سنوات الخراب.
في الشاشة سيسقط البرجان. في الشاشة ستتعرف إلى الملتحين. في الشاشة، ستتعرف على الغبي صاحب الحركات "الوجهيّة" الغريبة. هناك، سيُحاصر صاحب زيتون الشاشة المقلوع عنوةً.. ثم يموت أيضاً.. في الشاشة. ثم تنام لتصحو على هزّة. تسألهم عمّا حدث فيقال أنه انفجار، فلا تكترث قبل أن تشاهد الشاشة، ثم تصدق. ترى الأرض المحروقة وتبدأ أيامها الأخيرة لتتحول الشاشة بعدها واحةً لأناس كرهتهم في السابق فعادوا وطلوا أمامها وكأنهم لا يريدون تركها تهنأ بأيامها الأخيرة.
تختلط عليها الأمور، البعض يتحدث عن "أولاً" و"آخراً"، تنظر إلى السقف تستذكر صديق أمسياتها الحربيـّة رياض شرارة وتبتسم. ثم تغلق عينيها، وتبتسم. ثم تسمع أزيز الطائرات، فــ.. تبتسم. ثم تـُبنى كاريزما شخص آخر، ولا تملك إلا أن.. تبتسم.
وهو أيضاً. ينظر الآن إلى السقف الأسود (لعله السقف ذاته؟)، ويتهدل جفناه. ينتقل بملابسه الداخلية - التي قد تبدو غريبة لجدته - إلى سريره. يستلقي كعادته هناك ثم يعيد النظر فيراها تبتسم فوق وتنتهك بكل محبة عزلته.
ثم يغلق عينيه، وينتظر أن يأتيه يوم ينظر فيه إلى الشاشة و.. يبتسم.
ثم يغلق عينيه، وينتظر أن يأتيه يوم ينظر فيه إلى الشاشة و.. يبتسم.
0 comments:
Post a Comment